بما أن أعداد السكان تتزايد في العالم، فهل ستكون مياه الشرب العذبة كافية لهؤلاء السكان، أم سنعاني في الأعوام المقبلة من شح في مياه الشرب؟ هل تعلم أيضا أن أسواق الأسهم قد وصلت إلى مستويات مرتفعة، وسوف تكون مستدامة؟ ما سبب ذلك وما علاقة هذا بموضوع علم استشراف المستقبل والتوجهات المستقبلية؟
التوجهات المستقبلية:
كما ذكرنا سابقا بأن المستقبل لن يكون أبدًا صورة للماضي، فهذا لا يعني أن المستقبل لا تربطه أي صلة بالماضي فعندما نفكر فيه، فإننا بالضرورة يجب أن نفكر بالماضي؛ بمعنى أنه يجب علينا كي نفهم المستقبل ونخطط له بصورة أفضل أن نفكر في التوجهات وقوى التغيير، والأحداث التي حدثت في الماضي، وكيف تفاعلت مع بعضها؟ وكيف أثرت علينا في الماضي وشكلت عالمنا في ذلك الوقت؟ وما مدى تأثيرها في المستقبل؟
من هنا يمكننا القول إن عملية الاستشراف ترتكز على نحو أساسي على استقراء التوجُّهات العامة البعيدة المدى في مسارات الأفراد والجماعات فكلما زادت معرفتنا بهذه التوجهات ومدى تأثيرها، كان بإمكاننا تحليل الأحداث والاتجاهات الحالية بشكل أفضل والتخطيط للمستقبل مع مراعاة قوى هذه الاتجاهات والتغيرات وكيف ستشكل مستقبلنا؟
ولكن علينا ان ننتبه بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به ولكن يمكننا التخطيط له ومثال على ذلك: عندما قام أحد الاقتصاديين عام 1929 بتصريح قال فيه ” بأن أسواق الأسهم قد وصلت إلى مستويات مرتفعة، وأن هذه المستويات سوف تكون مستدامة أو دائمة”. أي أن أسواق الأسهم سوف تبقى على مستوياتها المرتفعة، لكنه جاء مباشرةً قبل انهيار سوق الأسهم الأمريكي في ذلك العام، وبدأ كساد اقتصادي عالمي أصبح يُعرف اليوم بالكساد العظيم أو (Great Depression). وهذا الكساد الكبير وما يرتبط به من تغيرات اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية أثر على العالم في ذلك الوقت. على سبيل المثال: ربط العديد من المحللين والخبراء الكساد الكبير بصعود الحركات الشعوبية في العالم، مثل تأسيس الحزب النازي الألماني، والعديد من الإجراءات الاقتصادية التي سببها الكساد الكبير، مثل فرض الضرائب على الواردات الأجنبية في ذلك الوقت. وها نحن اليوم نرى أن الضرائب بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي شبيهة بما حدث في ذلك الوقت، وكيف تطورت كل هذه الأحداث، مما دفع العديد من المحللين إلى الادعاء بأنها كانت السبب الرئيسي الذي أدى أو مهد لإنشاء الحرب العالمية الثانية.
كيف يمكننا التخطيط للمستقبل؟
ولأن المستقبل ليس تنجيماً بل يعتمد على أساس علمي متمثل في القدرة على التخطيط والتخيل فإنه لا بد من وجود بعض الخطوات التي يمكن اتباعها لنتمكن من التخطيط بشكل جيد للمستقبل فشتان بين أن يأتي العمل كمقدمة سريعة للعمل التخطيطي، وبين أن تتاح الفرصة لكي ينمو كعملٍ قائم بذاته، يأخذ وقته اللازم ويستعمل المنهجيات المتعارف عليها. وهذه الخطوات كالتالي:
أولاً: التعلم من الماضي، وأن ننظر إلى الأحداث والتطورات التي قد حدثت في الماضي، وكيف تفاعلت فيما بينها؟ وكيف أثرت على العالم في مناطقه المختلفة.
ثانياً: أن نقوم بمسح البيئة الخارجية للتعرف على التوجهات والتغييرات وقوى التغيير التي تحدث أو تتطور حالياً، أي أن نكون على معرفة بما يجري حولنا، وما يمكن أن يؤثر علينا.
ثالثاً: وهي الخطوة الرئيسية هي القيام بتحليل هذه التطورات والتوجهات المستقبلية، وابتكار أو تطوير رؤى مستقبلية؛ أي صور عن المستقبل أو ما يُسمى بالسيناريوهات
ولكي نبدأ بالتخطيط للمستقبل لابد أن ندرك ما هي التوجهات التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار أثناء عملية التخطيط.
ما هي أبرز التوجهات التي ستؤثر على العالم في المستقبل؟
التوجه المستقبلي الأول: هو التغييرات السكانية:
حيث يعد من أبرز التوجهات المستقبلية لأنه يتضمن العديد من الأحداث التي نعيشها في الوقت الحالي والتي سيكون لها تأثير كبير في المستقبل. على سبيل المثال: تبلغ نسبة المواليد في قارة أفريقيا 6% وهذه الزيادة المرتفعة في نسبة المواليد سوف تؤثر على أهمية قارة أفريقيا من جميع نواحي الحياة. ومثال آخر: اليابان حيث تعد من أكثر الدول التي تعاني من ارتفاع نسبة الشيخوخة فيها، وهذا يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد في اليابان نتيجة نقص القوى العاملة.
وهناك دراسات وتحليلات تتوقه أنه بحلول عام 2050، فإن أكثر من ثلثي العالم سوف ينتقلون للعيش في مناطق حضارية، وبالطبع هذا سيؤدي إلى صعوبة إيجاد وسائل لتوفير الطعام والشراب لهذه الأعداد الهائلة. وأيضاً سيقود ذلك إلى إحداث تغييرات في نماط الأفراد السلوكية، بمعنى أن كل فرد سيكون له متطلباته الخاصة.
التوجه المستقبل الثاني: وهو ما يعرف بتفكك القوى الكبرى أو: power diffusion
أي أن هناك العديد من القوى السياسية في المستقبل، ولا يقتصر على الغير على القوى السياسية بل يمتد ليشمل القوى الاقتصادية. على سبيل المثال: تعد الصين من أبرز الأسواق الاستهلاكية في العالم وهي محرك الاقتصاد للعالم الجديد، ولكن هذا يؤدي إلى إحداث بعض التغييرات منها: أن الخدمات سوف تكون ملبية لاحتياجات القوى. وأصبح هناك تحول في القوى وظهور تحالفات واتفاقيات اقتصادية جديدة أهمها: ظهور المشروع الصيني أو ما عُرف بطريق الحرير الجدي.
التوجه المستقبلي الثالث: أو ما يُعرف ب resources pressure أو الضغط على الموارد الطبيعية:
ومن أبرز ما يمكن أن يؤثر على هذا التوجه الكبير هو الضغط على الموارد البيئية. فعلى سبيل المثال: هناك توقعات بأنه بحلول عام 2050، سيتجاوز عدد سكان العالم 9 مليار نسمة. وأيضاً أشارت منظمات عالمية بأن الطلب على المياه العذبة سوف يفوق 40% وهذا ما هو متوفر في عام 2030، وهذا يؤدي إلى هجرة الأشخاص من المناطق التي تعاني من شح المياه.
فمثلاً عند سقوط الاتحاد السوفيتي، كان التوجه السائد هو العولمة وكان لهذا آثار اجتماعية وغيرها مثل: نشر الثقافة الغربية كثقافة عالمية سائدة. لكن هناك العديد من الدول مثل الصين وروسيا وامريكا الذين كانوا من مبشري العولمة ولكن أصبحوا الآن يفرضون ضرائب على الواردات من السلع. فهذا التوجه إذا تطور سوف يؤثر بشكل كبير علينا في المستقبل.
التوجه المستقبلي الرابع: وهو ما يسمى بالتغير المناخي:
حيث يشمل العديد من التأثيرات السلبية التي تؤثر على الدول مثل: ارتفاع مستوى سطح البحر فهذا سيؤثر بشكل خاص على المدن الساحلية التي تعتمد على السياحة، وهذا أيضاً سيؤثر على سكان تلك المدن وعلى إيراداتها، وسيؤثر أيضاً على حكومات الدول. وإذا استمر هذا التوجه في التطور فسيكون له نتائج وخيمة
التوجه المستقبلي الخامس، وهو ما يسمى بالتطورات التكنولوجيا الهائلة.
فعلى سبيل المثال: فإن الذكاء الاصطناعي يؤثر على المهارات والوظائف المستقبلية بشكل كبير. وأيضاً الروبورتات والحوسبة الحسابية وغيرها.
ما هي خصائص التوجهات المستقبلية؟
ولكي نستطيع أن نتعامل مع هذه التوجهات علينا أن نفهم ماهيتها جيدا حيث أن هذه التوجهات لها خصائص عديدة منها:
أن درجة تأثيرها تختلف من مكان إلى آخر؛ فمثلا ارتفاع مستويات البحر سيكون له تأثير على المدن الساحلية، ودول مثل: سيرلنكا، وبنغلادش أكبر من تأثيره على مدن أو دول ليس لديها سواحل مثل: نيبال، أو الأردن، أو غيرها من البلدان.
أنها تختلف من حيث درجة التنبؤ بتطورها؛ على سبيل المثال: إنه يمكننا التنبؤ بالزيادة السكانية بصورة أكبر من قدرتنا على التنبؤ بالتوجهات المتعلقة بالثقافة أو بالتطورات السياسية.
سرعة تغير هذه التوجهات تختلف فيما بينها؛ فعلى سبيل المثال: إن زيادة درجة حرارة الكوكب بطيئة، أي أن سرعة تغيرها بطيئة. خلال المئة عام السابقة زادت درجة حرارة الكوكب بأقل من درجة مئوية واحدة، لكن معدل زيادة التجارة الدولية في مجال الخدمات قد تضاعفت أربع مرات في العقدين السابقين.
وختاماً؛ إن عملية التنبؤ تعتمد بشكل أساسي على استنتاج التوجهات العامة وصياغة السيناريوهات التي يمكن تحويلها إلى واقع ملموس يمكن تطبيقه بشكل فعال، من أجل الاستفادة من أي فرص مستقبلية أو اتخاذ الإجراءات الوقائية للتعامل مع أي مخاطر أو تصحيح الانحرافات. والغرض من البحث المستقبلي هو توفير إطار زمني طويل الأمد للقرارات التي قد نتخذها اليوم، لأن القرارات التي نتخذها الآن ستؤثر على مستقبلنا ومستقبل أطفالنا وأحفادنا بطريقة أو بأخرى.
0 تعليق